فصل: الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة مريم

 مقدمة السورة

سورة مريم مكية إلا آيتي ‏(‏58‏)‏ و‏(‏71‏)‏ فمدنيتان وآياتها 98 نزلت بعد فاطر لما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش‏:‏ إن ثأركم بأرض الحبشة، فأهدوا إلى النجاشي، وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش، فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر؛ فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعثهما، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم ‏{‏كهيعص‏{‏ وقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم ‏{‏ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون‏}‏المائدة‏:‏ 82‏]‏‏.‏ وقرأ إلى قوله‏{‏الشاهدين‏{‏‏.‏ ذكره أبو داود‏.‏ وفي السيرة؛ فقال النجاشي‏:‏ هل معك مما جاء به عن الله شيء‏؟‏ قال جعفر‏:‏ نعم؛ فقال له النجاشي‏:‏ اقرأه علي‏.‏ قال‏:‏ فقرأ ‏{‏كهيعص‏{‏ فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم؛ فقال النجاشي‏:‏ هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا؛ وذكر تمام الخبر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 1 ‏)‏

‏{‏كهيعص‏}‏

تقدم الكلام في أوائل السور‏.‏ وقال ابن عباس في ‏{‏كهيعص‏{‏‏:‏ أن الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، ذكره ابن عزيز القشيري عن ابن عباس؛ معناه كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم بهم، صادق في وعده؛ ذكره الثعلبي عن الكلبي السدي ومجاهد والضحاك‏.‏ وقال الكلبي أيضا‏:‏ الكاف من كريم وكبير وكاف، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق؛ والمعنى واحد‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ هو اسم من أسماء الله تعالى؛ وعن علي رضي الله عنه هو اسم الله عز وجل وكان يقول‏:‏ يا كهيعص اغفر لي؛ ذكره الغزنوي‏.‏ السدي‏:‏ هو اسم الله الأعظم الذي سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب‏.‏ وقتادة‏:‏ هو اسم من أسماء القرآن؛ ذكره عبدالرزاق‏.‏ عن معمر عنه‏.‏ وقيل‏:‏ هو اسم للسورة؛ وهو اختيار القشيري في أوائل الحروف؛ وعلى هذا قيل‏:‏ تمام الكلام عند قوله‏{‏كهيعص‏{‏ كأنه إعلام باسم السورة، كما تقول‏:‏ كتاب كذا أو باب كذا ثم تشرع في المقصود‏.‏ وقرأ ابن جعفر هذه الحروف متقطعة، ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء، وابن عامر وحمزة بالعكس، وأمالهما جميعا الكسائي وأبو بكر وخلف‏.‏ وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة نافع وغيره‏.‏ وفتحهما الباقون‏.‏ وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف، وحكى غيره أنه كان يضم ها، وحكى إسماعيل بن إسحاق أنه كان يضم يا‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ ولا يجوز ضم الكاف والهاء والياء؛ قال النحاس‏:‏ قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا، والإمالة جائزة في هاويا‏.‏ وأما قراءة الحسن فأشكلت على جماعة حتى قالوا‏:‏ لا تجوز؛ منهم أبو حاتم‏.‏ والقول فيها ما بينه هارون القارئ؛ قال‏:‏ كان الحسن يشم الرفع؛ فمعنى هذا أنه كان يومئ؛ كما سيبويه أن من العرب من يقول‏:‏ الصلاة والزكاة يومئ إلى الواو، ولهذا كتبها في المصحف بالواو‏.‏ وأظهر الدال من هجاء ‏{‏ص‏{‏ نافع وابن كثير وعاصم ويعقوب، وهو اختيار أبي عبيد؛ وأدغمها الباقون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 2 ‏)‏

‏{‏ذكر رحمة ربك عبده زكريا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذكر رحمة ربك‏{‏ في رفع ‏{‏ذكر‏{‏ ثلاثة أقوال؛ قال الفراء‏:‏ هو مرفوع بـ ‏{‏كهيعص‏{‏؛ قال الزجاج‏:‏ هذا محال؛ لأن ‏{‏كهيعص‏{‏ ليس هو مما أنبأنا الله عز وجل به عن زكريا، وقد خبر الله تعالى عنه وعن ما بشر به، وليس ‏{‏كهيعص‏{‏ من قصته‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ التقدير؛ فيما يقص عليكم ذكر رحمة ربك‏.‏ والقول الثالث‏:‏ أن المعنى هذا الذي يتلوه عليكم ذكر رحمة ربك‏.‏ وقيل‏{‏ذكر رحمة ربك‏{‏ رفع بإضمار مبتدأ؛ أي هذا ذكر رحمة ربك؛ وقرأ الحسن ‏{‏ذكر رحمة ربك‏{‏ أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك‏.‏ وقرئ ‏{‏ذكر‏{‏ على الأمر‏.‏ ‏{‏ورحمة‏{‏ تكتب ويوقف عليها بالهاء، وكذلك كل ما كان مثلها، لا اختلاف فيها بين النحويين واعتلوا في ذلك أن هذه الهاء لتأنيث الأسماء فرقا بينها وبين الأفعال‏.‏ ‏{‏عبدة‏{‏ قال الأخفش‏:‏ هو منصوب بـ ‏{‏رحمة‏{‏‏.‏ ‏{‏زكريا‏{‏ بدل منه، كما تقول‏:‏ هذا ذكر ضرب زيد عمرا؛ فعمرا منصوب بالضرب، كما أن ‏{‏عبده‏{‏ منصوب بالرحمة‏.‏ وقيل‏:‏ هو على التقديم والتأخير؛ معناه‏:‏ ذكر ربك عبده زكريا برحمة؛ فـ ‏{‏عبده‏{‏ منصوب بالذكر؛ ذكره الزجاج والفراء‏.‏ وقرأ بعضهم ‏{‏عبده زكريا‏{‏ بالرفع؛ وهي قراءة أبي العالية‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر ‏{‏ذكر‏{‏ بالنصب على معنى هذا القرآن ذكر رحمة عبده زكريا‏.‏ وتقدمت اللغات والقراءة في ‏{‏زكريا‏{‏ في ‏{‏آل عمران‏}‏

 الآية رقم ‏(‏ 3 ‏)‏

‏{‏إذ نادى ربه نداء خفيا‏}‏

مثل قوله‏{‏ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين‏}‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏ وقد تقدم‏.‏ والنداء الدعاء والرغبة؛ أي ناجى ربه بذلك في محرابه‏.‏ دليله قوله‏{‏فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب‏}‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ فبين أنه استجاب له في صلاته، كما نادى في الصلاة‏.‏ واختلف في إخفائه هذا النداء؛ فقيل‏:‏ أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند كبر السن؛ ولأنه أمر دنيوي، فإن أجيب فيه نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف بذلك أحد‏.‏ وقيل‏:‏ مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ لما كانت الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء أخفاه‏.‏ وقيل‏{‏خفيا‏{‏ سرا من قومه في جوف الليل؛ والكل محتمل والأول أظهر؛ والله أعلم‏.‏ وقد تقدم أن المستحب من الدعاء الإخفاء في سورة ‏{‏الأعراف‏{‏ وهذه الآية نص في ذلك؛ لأنه سبحانه أثنى بذلك على زكريا‏.‏ وروى إسماعيل قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أسامة بن زيد عن محمد بن عبدالرحمن وهو ابن أبي كبشة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي‏)‏ وهذا عام‏.‏ قال يونس بن عبيد‏:‏ كان الحسن يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمن من خلفه من غير رفع صوت، وتلا يونس ‏{‏إذ نادى ربه نداء خفيا‏{‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي، والجهر به أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو به جهرا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 4 ‏)‏

‏{‏قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال رب إني وهن العظم مني‏{‏ ‏{‏قال رب إني وهن‏{‏ قرئ ‏{‏وهن‏{‏ بالحركات الثلاث أي ضعف‏.‏ يقال‏:‏ وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن‏.‏ وقال أبو زيد يقال‏:‏ وهن يهن ووهن يوهن‏.‏ وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته؛ ولأنه أشد ما فيه وأصلبه؛ فإذا وهن كان ما وراءه أوهن منه‏.‏ ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها‏.‏

قوله تعالى‏{‏واشتعل الرأس شيبا‏{‏ أدغم السين في الشين أبو عمرو‏.‏ وهذا من أحسن الاستعارة في كلام العرب‏.‏ والاشتعال انتشار شعاع النار؛ شبه به انتشار الشيب في الرأس؛ يقول‏:‏ شخت وضعفت؛ وأضاف الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس‏.‏ ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا عليه السلام‏.‏ ‏{‏وشيبا‏{‏ في نصبه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه مصدر لأن معنى اشتعل شاب؛ وهذا قول الأخفش‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ وهو منصوب على التمييز‏.‏ النحاس‏:‏ قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل فالمصدر أولى به‏.‏ والشيب مخالطة الشعر الأبيض الأسود‏.‏ قال العلماء‏:‏ يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه وما يليق بالخضوع؛ لأن قوله تعالى‏{‏وهن العظم مني‏{‏ إظهار للخضوع‏.‏ وقوله‏{‏ولم أكن بدعائك رب شقيا‏{‏ إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته؛ أي لم أكن بدعائي إياك شقيا؛ أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك؛ أي إنك عودتني الإجابة فيما مضى‏.‏ يقال‏:‏ شقي بكذا أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده‏.‏ وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال‏:‏ أنا الذي أحسنت إليه في وقت كذا؛ فقال‏:‏ مرحبا بمن توسل بنا إلينا؛ وقضى حاجته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

‏{‏وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإني خفت الموالي‏{‏ قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما ويحيى بن يعمر ‏{‏خفت‏{‏ بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وسكون الياء من ‏{‏الموالي‏{‏ لأنه في رفع ‏{‏بخفت‏{‏ ومعناه انقطعت بالموت‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏خفت‏{‏ بكسر الخاء وسكون الفاء وضم التاء ونصب الياء من ‏{‏الموالي‏{‏ لأنه في موضع نصب بـ ‏{‏خفت‏{‏ و‏{‏الموالي‏{‏ هنا الأقارب بنو العم والعصبة الذين يلونه في النسب‏.‏ والعرب تسمي بني العم الموالي‏.‏ قال الشاعر‏:‏

مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق أن يرثه غير الولد‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين بعده؛ حكى هذا القول الزجاج، وعليه فلم يسل من يرث ماله؛ لأن الأنبياء لا تورث‏.‏ وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة‏)‏ وفي كتاب أبي داود‏:‏ ‏(‏إن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم‏)‏‏.‏ وسيأتي في هذا مزيد بيان عند قوله‏{‏يرثني‏{‏‏.‏

هذا الحديث يدخل في التفسير المسند؛ لقوله تعالى‏{‏وورث سليمان داود‏{‏ وعبارة عن قول زكريا‏{‏فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب‏{‏ وتخصيص للعموم في ذلك، وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده؛ وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب؛ هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض، وإلا ما روي عن الحسن أنه قال‏{‏يرثني‏{‏ مالا ‏{‏ويرث من آل يعقوب‏{‏ النبوة والحكمة؛ وكل قول يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدفوع مهجور؛ قال أبو عمر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والأكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال؛ ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إنا معشر الأنبياء لا نورث‏)‏ ألا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم؛ فتأمله‏.‏ والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة‏.‏ ألا ترى أنه لما طلب وليا ولم يخصص ولدا بلغه الله تعالى أمله على أكمل الوجوه‏.‏ وقال أبو صالح وغيره‏:‏ قوله ‏{‏من آل يعقوب‏{‏ يريد العلم والنبوة‏.‏

قوله تعالى‏{‏من ورائي‏{‏ قرأ ابن كثير بالمد والهمز وفتح الياء‏.‏ وعنه أنه قرأ أيضا مقصورا مفتوح الياء مثل عصاي‏.‏ الباقون بالهمز والمد وسكون الياء‏.‏ والقراء على قراءة ‏{‏خفت‏{‏ مثل نمت إلا ما ذكرنا عن عثمان‏.‏ وهي قراءة شاذة بعيدة جدا؛ حتى زعم بعض العلماء أنها لا تجوز‏.‏ قال كيف يقول‏:‏ خفت الموالي من بعدي أي من بعد موتي وهو حي‏؟‏ ‏!‏‏.‏ النحاس‏:‏ والتأويل لها ألا يعني بقوله‏{‏من ورائي‏{‏ أي من بعد موتى، ولكن من ورائي في ذلك الوقت؛ وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنهم خفوا في ذلك الوقت وقلوا، وقد أخبر الله تعالى بما يدل على الكثرة حين قالوا ‏{‏أيهم يكفل مريم‏{‏‏.‏ ابن عطية‏{‏من ورائي‏{‏ من بعدي في الزمن، فهو الوراء على ما تقدم في ‏{‏الكهف‏{‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكانت امرأتي عاقرا‏{‏ امرأته هي إيشاع بنت فاقوذا بن قبيل، وهي أخت حنة بنت فاقوذا؛ قاله الطبري‏.‏ وحنة هي أم مريم حسب ما تقدم في ‏{‏آل عمران‏{‏ بيانه‏.‏ وقال القتبي‏:‏ امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة‏.‏ وعلى القول الآخر يكون ابن خالة أمه‏.‏ وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى‏)‏ شاهدا للقول الأول‏.‏ والله أعلم‏.‏ والعاقر التي لا تلد لكبر سنها؛ وقد مضى بيانه في ‏{‏آل عمران‏{‏‏.‏ والعاقر من النساء أيضا التي لا تلد من غير كبر‏.‏ ومنه قوله تعالى‏{‏ويجعل من يشاء عقيما‏}‏الشورى‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وكذلك العاقر من الرجال؛ ومنه قول عامر بن الطفيل‏:‏

لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر

قوله تعالى‏{‏فهب لي من لدنك وليا‏{‏ سؤال ودعاء‏.‏ ولم يصرح بولد لما علم من حال وبعده عنه بسبب المرأة‏.‏ قال قتادة‏:‏ جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة‏.‏ مقاتل‏:‏ خمس وتسعين سنة؛ وهو أشبه؛ فقد كان غلب على ظنه انه لا يولد له لكبره؛ ولذلك قال‏{‏وقد بلغت من الكبر عتيا‏{‏‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ بل طلب الولد، ثم طلب أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه، تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد ولكن يحترم، ولا يتحصل منه الغرض‏.‏

قال العلماء‏:‏ دعاء زكريا عليه السلام في الولد إنما كان لإظهار دينه، وإحياء نبوته، ومضاعفة لأجره لا للدنيا، وكان ربه قد عوده الإجابة، ولذلك قال‏{‏ولم أكن بدعائك رب شقيا‏{‏، أي بدعائي إياك‏.‏ وهذه وسيلة حسنة؛ أن يتشفع إليه بنعمه، يستدر فضله بفضله؛ يروى أن حاتم الجود لقيه رجل فسأله؛ فقال له حاتم‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا الذي أحسنت إليه عام أول؛ فقال‏:‏ مرحبا بمن تشفع إلينا بنا‏.‏ فإن قيل كيف أقدم زكريا على مسألة ما يخرق العادة دون إذن‏؟‏ فالجواب أن ذلك جائز في زمان الأنبياء وفي القرآن ما يكشف عن هذا المعنى؛ فإنه تعالى قال‏{‏كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته؛ فقال تعالى‏{‏هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة‏}‏آل عمران‏:‏ 38‏]‏ الآية‏.‏

إن قال قائل‏:‏ هذه الآية تدل على جواز الدعاء بالولد، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من آفات الأموال والأولاد، ونبه على المفاسد الناشئة من ذلك؛ فقال‏{‏إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏}‏التغابن‏:‏ 15‏]‏‏.‏ قال‏{‏إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم‏}‏التغابن‏:‏ 14‏]‏‏.‏ فالجواب أن الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسنة حسب ما تقدم في ‏{‏آل عمران‏{‏ بيانه‏.‏ ثم إن زكريا عليه السلام تحرز فقال‏:‏ ‏(‏ذرية طيبة‏)‏ وقال‏{‏واجعله رب رضيا‏{‏‏.‏ والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة‏.‏ وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس خادمه فقال‏:‏ ‏(‏اللهم أكثر مال وولده وبارك له فيما أعطيته‏)‏ فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة‏.‏ وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده، ونجاته في أولاه وأخراه اقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء؛ وقد تقدم في ‏{‏آل عمران‏{‏ بيانه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 6 ‏)‏

‏{‏يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏يرثني‏{‏ قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة ‏{‏يرثني ويرث‏{‏ بالرفع فيهما‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحي بن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما، وليس هما جواب ‏{‏هب‏{‏ على مذهب سيبويه، إنما تقديره إن تهبه يرثني ويرث؛ والأول أصوب في المعنى لأنه طلب وارثا موصوفا؛ أي هب لي من لدنك الولي الذي هذه حال وصفته؛ لأن الأولياء منهم من لا يرث؛ فقال‏:‏ هب لي الذي يكون وارثي؛ قاله أبو عبيد؛ ورد قراءة الجزم؛ قال‏:‏ لأن معناه إن وهبت ورث، وكيف يخبرا الله عز وجل بهذا وهو أعلم به منه‏؟‏ ‏!‏ النحاس‏:‏ وهذه حجة متقصاة؛ لأن جواب الأم عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة؛ تقول‏:‏ أطع الله يدخلك الجنة؛ أي إن تطعه يدخلك الجنة‏.‏

قال النحاس‏:‏ فأما معنى ‏{‏يرثني ويرث من آل يعقوب‏{‏ فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة؛ قيل‏:‏ هي وراثة نبوة‏.‏ وقيل‏:‏ وراثه حكمة‏.‏ وقيل‏:‏ هي وراثة مال‏.‏ فأما قولهم وراثة نبوة فمحال؛ لأن النبوة لا تورث، ولو كانت تورث لقال قائل‏:‏ الناس ينتسبون إلى نوح عليه السلام وهو نبي مرسل‏.‏ ووراثة العلم والحكمة مذهب حسن؛ وفي الحديث ‏(‏العلماء ورثة الأنبياء‏)‏‏.‏ وأما وراثة المال فلا يمتنع، وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا نورث ما تركنا صدقة‏)‏ فهذا لا حجة فيه؛ لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجمع‏.‏ وقد يؤول هذا بمعنى‏:‏ لا نورث الذي تركناه صدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف شيئا يورث عنه؛ وإنما كان الذي أباحه الله عز وجل إياه في حياته بقوله تبارك اسمه‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول‏}‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ لأن معنى ‏{‏لله‏{‏ ومن سبيل الله، ومن سبيل الله ما يكون في مصلحة الرسول صلى الله عليه وسلم ما دام حيا؛ فإن قيل‏:‏ ففي بعض الروايات ‏(‏إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة‏)‏ ففيه التأويلان جميعا؛ أن يكون ‏{‏ما‏{‏ بمعنى الذي‏.‏ والآخر لا يورث من كانت هذه حاله‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا نورث ما تركنا صدقة‏)‏ على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ وهو الأكثر وعليه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث وما ترك صدقة‏.‏ والآخر‏:‏ أن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يورث؛ لأن الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته، كما خص في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره؛ وهذا القول قال بعض أهل البصرة منهم ابن علية، وسائر علماء المسلمين على القول الأول‏.‏

قوله تعالى‏{‏من آل يعقوب‏{‏ قيل‏:‏ هو يعقوب بن إسرائيل، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب؛ لأنها من ولد سليمان بن داود وهو من ولد يهوذا بن يعقوب، وزكريا من ولد هارون أخي موسى، وهارون وموسى من ولد لاوى بن يعقوب، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحاق‏.‏ وقيل‏:‏ المعني بيعقوب ها هنا بن يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان أبي مريم أخوان من نسل سليمان بن داود عليهما السلام؛ لأن يعقوب وعمران ابنا ماثان، وبنو ماثان رؤساء بني إسرائيل؛ قاله مقاتل وغيره‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ وكان آل يعقوب أخواله، وهو يعقوب بن ماثان، وكان فيهم الملك، وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى‏.‏ وروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يرحم الله - تعالى - زكريا ما كان عليه من ورثته‏)‏‏.‏ ولم ينصرف يعقوب لأنه أعجمي‏.‏

قوله تعالى‏{‏واجعله رب رضيا‏{‏ أي مرضيا في أخلاقه وأفعاله‏.‏ وقيل‏:‏ راضيا بقضائك وقدرك‏.‏ وقيل‏:‏ رجلا صالحا ترضى عنه‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ نبيا كما جعلت أباه نبيا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 7 ‏)‏

‏{‏يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا زكريا‏{‏ في الكلام حذف؛ أي فاستجاب الله دعاءه فقال‏{‏يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى‏{‏ فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء‏:‏ أحدها‏:‏ إجابة دعائه وهي كرامة‏.‏ الثاني‏:‏ إعطاؤه الولد وهو قوة‏.‏ الثالث‏:‏ أن يفرد بتسميته؛ وقد تقدم معنى تسميته في ‏{‏آل عمران‏{‏‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ سماه يحي لأنه حيي بين أب شيخ وأم عجوز؛ وهذا فيه نظر؛ لما تقدم من أن امرأته كانت عقيما لا تلد‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏لم نجعل له من قبل سميا‏{‏ أي لم نسم أحدا قبل يحيى بهذا الاسم؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن أسلم والسدي‏.‏ ومن عليه تعالى بأن لم يكل تسميته إلى الأبوين‏.‏ وقال مجاهد وغيره‏{‏سميا‏{‏ معناه مثلا ونظيرا، وهو مثل قوله تعالى‏{‏هل تعلم له سميا‏}‏مريم‏:‏ 65‏]‏ معناه مثلا ونظيرا كأنه من المساماة والسمو؛ هذا فيه بعد؛ لأنه لا يفضل على إبراهيم؛ وموسى؛ اللهم إلا أن يفضل في خاص كالسؤدد والحصر حسب ما تقدم بيانه ‏{‏في آل عمران‏{‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ معناه لم تلد العواقر مثله ولدا‏.‏ قيل‏:‏ إن الله تعالى اشترط القبل، لأنه أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي هذه الآية دليل وشاهد على أن الأسامي السنع جديرة بالأثرة، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنزه عن النبز حتى قال قائل‏:‏

سنع الأسامي مسبلي أزر حمر تمس الأرض بالهدب

وقال رؤبة للنسابة البكري وقد سأله عن نسبه‏:‏ أنا ابن العجاج؛ فقال‏:‏ قصرت وعرفت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 8 ‏)‏

‏{‏قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال رب أنى يكون لي غلام‏{‏ ليس على معنى الإنكار لما أخبر الله تعالى به، بل على سبيل التعجب من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير‏.‏ وقيل‏:‏ غير هذا مما تقدم في ‏{‏آل عمران‏{‏ بيانه‏.‏ ‏{‏وقد بلغت من الكبر عتيا‏{‏ يعني النهاية في الكبر واليبس والجفاف؛ ومثله العسي؛ قال الأصمعي‏:‏ عسا الشيء يعسو عسوا وعساء ممدود أي يبس وصلب، وقد عسا الشيخ يعسو عسيا ولى وكبر مثل عتا؛ يقال‏:‏ عتا الشيخ يعتو عتيا وعتيا كبر وولى، وعتوت يا فلان تعتو عتوا وعتيا‏.‏ والأصل عتو لأنه من ذوات الواو، فأبدلوا من الواو ياء؛ لأنها أختها وهي أخف منها، والآيات على الياءات‏.‏ ومن قال‏{‏عتيا‏{‏ كره الضمة مع الكسرة والياء؛ وقال الشاعر‏:‏

إنما يعذر الوليد ولا يعـ ـذر من كان في الزمان عتيا

وقرأ ابن عباس ‏{‏عسيا‏{‏ وهو كذلك مصحف أبي‏.‏ وقرأ يحيي بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص ‏{‏عتيا‏{‏ بكسر العين وكذلك ‏{‏جثيا‏{‏ و‏{‏صليا‏{‏ حيث كن‏.‏ وضم حفص ‏{‏بكيا‏{‏ خاصة، وكذلك الباقون في الجميع، وهما لغتان‏.‏ وقيل‏{‏عتيا‏{‏ قسيا؛ يقال‏:‏ ملك عات إذا كان قاسي القلب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 9 ‏)‏

‏{‏قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال كذلك قال ربك هو علي هين‏{‏ أي قال له الملك ‏{‏كذلك قال ربك‏{‏ والكاف في موضع رفع؛ أي الأمر كذلك؛ أي كما قيل لك‏{‏هو علي هين‏{‏‏.‏ قال الفراء‏:‏ خلقه علي هين‏.‏ ‏{‏وقد خلقتك من قبل‏{‏ أي من قبل يحيى‏.‏ وهذه قراءة أهل المدينة والبصرة وعاصم‏.‏ وقرأ سائر الكوفيين ‏{‏وقد خلقناك‏{‏ بنون وألف بالجمع على التعظيم‏.‏ والقراءة الأولى أشبه بالسواد‏.‏ ‏{‏ولم تك شيئا‏{‏ أي كما خلقك الله تعالى بعد العدم ولم تك شيئا موجودا، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 10 ‏)‏

‏{‏قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال رب اجعل لي آية‏{‏ طلب آية على حملها بعد بشارة الملائكة إياه، وبعد ‏{‏وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا‏{‏ زيادة طمأنينة؛ أي تمم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة‏.‏ وقيل‏:‏ طلب آية تدله على أن البشرى منه بيحيى لا من الشيطان؛ لأن إبليس أوهمه ذلك‏.‏ قاله الضحاك وهو معنى قول السدي؛ وهذا فيه نظر لإخبار الله تعالى بأن الملائكة نادته حسب ما تقدم في ‏{‏آل عمران‏{‏‏.‏ ‏{‏قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا‏{‏ تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فخرج على قومه من المحراب‏{‏ أي أشرف عليهم من المصلى‏.‏ والمحراب أرفع المواضع، أشرف المجالس، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض؛ دليله محراب داود عليه السلام على ما يأتي‏.‏ واختلف الناس في اشتقاقه؛ فقالت فرقة‏:‏ هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هو مأخوذ من الحرب ‏(‏بفتح الراء‏)‏ كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا‏.‏

هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم في صلاتهم‏.‏ وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره متمسكا بقصة المنبر‏.‏ ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام‏.‏

قلت‏:‏ وهذا فيه نظر؛ وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال‏:‏ ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا - أو ينهى عن ذلك‏!‏ قال‏:‏ بلى قد ذكرت حين مددتني وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال‏:‏ حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزل حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة‏:‏ ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم‏)‏ أو نحو ذلك؛ فقال عمار‏:‏ لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي‏.‏

قلت‏:‏ فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه أن فيه عملا زائدا في الصلاة، وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام‏.‏ وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر؛ لأن كثيرا من الأئمة يوجد لا كبر عندهم، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا؛ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا‏{‏ قال الكلبي وقتادة وابن منبه‏:‏ أوحى إليهم أشار‏.‏ القتبي‏:‏ أومأ‏.‏ مجاهد‏:‏ كتب على الأرض‏.‏ عكرمة‏:‏ كتب في كتاب‏.‏ والوحي في كلام العرب الكتابة؛ ومنه قول ذي الرمة‏:‏

سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية وحي في بطون الصحائف

وقال عنترة‏:‏

كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطمي

و ‏{‏بكرة وعشيا‏{‏ ظرفان‏.‏ وزعم الفراء أن العشي يؤنث ويجوز تذكيره إذا أبهمت؛ قال‏:‏ وقد يكون العشي جمع عشية‏.‏

قد تقدم الحكم في الإشارة في ‏{‏آل عمران‏{‏ واختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم إنسانا فكتب إليه كتابا، أو أرسل إليه رسولا؛ فقال مالك‏:‏ إنه يحنث إلا أن ينوي مشافهته، ثم رجع فقال‏:‏ لا ينوي في الكتاب ويحنث إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ إذا قرأ كتابه حنث، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه‏.‏ وقال أشهب‏:‏ لا يحنث إذا قرأه الحالف؛ وهذا بين؛ لأنه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام إلا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث وعليه يخرج قول ابن القاسم‏.‏ فإن حلف ليكلمنه لم يبر إلا بمشافهته؛ وقال ابن الماجشون‏:‏ وإن حلف لئن علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه إليه أو أرسل إليه رسولا بر، ولو علماه جميعا لم يبر، حتى يعلمه لأن علمهما مختلف‏.‏

واتفق مالك والشافعي والكوفيون أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه؛ قال الكوفيون‏:‏ إلا أن يكون رجل أصمت أياما فكتب لم يجز من ذلك شيء‏.‏ قال الطحاوي‏:‏ الخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع العارض لمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز الميؤوس منه الجماع، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 12 ‏)‏

‏{‏يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا يحيى خذ الكتاب بقوة‏{‏ في الكلام حذف؛ المعنى فولد له ولد وقال الله تعالى للمولود‏{‏يا يحيى خذ الكتاب بقوة‏{‏ وهذا اختصار يدل الكلام عليه و‏{‏الكتاب‏{‏ التوراة بلا خلاف‏.‏ ‏{‏بقوة‏{‏ أي بجد واجتهاد؛ قاله مجاهد‏.‏ وقيل العلم به، والحفظ له والعمل به، وهو الالتزام لأوامره، والكف عن نواهيه؛ قاله زيد بن أسلم؛ وقد تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ ‏{‏وآتيناه الحكم صبيا‏{‏ قيل‏:‏ الأحكام والمعرفة بها‏.‏ وروى معمر أن الصبيان قالوا ليحيى‏:‏ اذهب بنا نلعب؛ فقال‏:‏ ما للعب خلقت‏.‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏وآتيناه الحكم صبيا‏{‏ وقال قتادة‏:‏ كان ابن سنتين أو ثلاث سنين‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كان ابن ثلاث سنين‏.‏ و‏{‏صبيا‏{‏ نصب على الحال‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا‏.‏ وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا‏)‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إن يحيى عليه السلام لم يعص الله قط بصغيرة ولا كبيرة ولاهم بامرأة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ وكان طعام يحيى عليه السلام العشب، كان للدمع في خديه مجار ثابتة‏.‏ وقد مضى الكلام في معنى قوله‏{‏وسيدًا وحصورا‏}‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ في ‏{‏آل عمران‏{‏

 الآية رقم ‏(‏ 13 ‏)‏

‏{‏وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وحنانا من لدنا‏{‏ ‏{‏حنانا‏{‏ عطف على ‏{‏الحكم‏{‏‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ والله ما أدري ما ‏{‏الحنان‏{‏‏.‏ وقال جمهور المفسرين‏:‏ الحنان الشفقة والرحمة والمحبة؛ وهو فعل من أفعال النفس‏.‏ النحاس‏:‏ وفي معنى الحنان عن ابن عباس قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ قال‏:‏ تعطف الله عز وجل عليه بالرحمة والقول الآخر ما أعطيه من رحمة الناس حتى يخلصهم من الكفر والشرك‏.‏ وأصله من حنين الناقة على ولدها‏.‏ ويقال‏:‏ حنانك وحنانيك؛ قيل‏:‏ هما لغتان بمعنى واحد‏.‏ وقيل‏:‏ حنانيك تثنية الحنان‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ والعرب تقول‏:‏ حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد؛ تريد رحمتك‏.‏ وقال امرؤ القيس‏:‏

ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان

وقال طرفة‏:‏

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض

وقال الزمخشري‏{‏حنانا‏{‏ رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة؛ وأنشد سيبويه‏:‏

فقالت حنان ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف

قال بن الأعرابي‏:‏ الحنان من صفة الله تعالى مشددا الرحيم والحنان مخفف‏:‏ العطف والرحمة‏.‏ والحنان‏:‏ الرزق والبكرة‏.‏ ابن عطية‏:‏ والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى؛ ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في حديث بلال‏:‏ والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا؛ وذكر هذا الخبر الهروي؛ فقال‏:‏ وفي حديث بلال ومر عليه ورقة بن نوفل وهو يعذب فقال الله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا؛ أي لأتمسحن به‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ معناه لأتعطفن عليه ولأترحمن عليه لأنه من أهل الجنة‏.‏

قلت‏:‏ فالحنان العطف، وكذا قال مجاهد‏.‏ و‏{‏حنانا‏{‏ أي تعطفا منا عليه أو منه على الخلق؛ قال الحطيئة‏:‏

تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا

عكرمة‏:‏ محبة‏.‏ وحنة الرجل امرأته لتوادهما؛ قال الشاعر‏:‏

فقالت حنان ما أتى بك ههنا أذو نسب أم أنت بالحي عارف

قوله تعالى‏{‏وزكاة‏{‏ ‏{‏الزكاة‏{‏ التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر؛ أي جعلناه مباركا للناس يهديهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تزكي الشهود إنسانا‏.‏ وقيل‏{‏زكاة‏{‏ صدقة به على أبويه؛ قاله ابن قتيبة‏.‏ ‏{‏وكان تقيا‏{‏ أي مطيعا لله تعالى، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلم بها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 14 ‏)‏

‏{‏وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وبرا بوالديه‏{‏ البر بمعنى البار وهو الكثير البر‏.‏ ‏{‏جبارا‏{‏ متكبرا‏.‏ وهذا وصف ليحيى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 15 ‏)‏

‏{‏وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وسلام عليه يوم ولد‏{‏ قال الطبري وغيره‏:‏ معناه أمان‏.‏ ابن عطية‏:‏ والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول‏.‏

قلت‏:‏ وهذا قول حسن، وقد ذكرناه معناه عن سفيان بن عيينة في سورة ‏{‏سبحان‏}‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ عند قتل يحي‏.‏ وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيي التقيا - وهما ابنا الخالة - فقال يحيى لعيسى‏:‏ ادع الله لي فأنت خير مني؛ فقال له عيسى‏:‏ بل أنت ادع الله لي فأنت خير مني؛ سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي؛ فانتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى؛ بأن قال‏:‏ إدلاله التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولكل وجه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏واذكر في الكتاب مريم‏{‏ القصة إلى آخرها هذا ابتداء قصة ليست من الأولى‏.‏ والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ أي عرفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا‏.‏ ‏{‏إذ انتبذت‏{‏ أي تنحت وتباعدت‏.‏ والنبذ الطرح والرمي؛ قال الله تعالى‏{‏فنبذوه وراء ظهورهم‏{‏‏.‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 187‏]‏‏.‏ ‏{‏من أهلها‏{‏ أي ممن كان معها‏.‏ و‏{‏إذ‏{‏ بدل من ‏{‏مريم‏{‏ بدل اشتمال؛ لأن الأحيان مشتملة على ما فيها‏.‏ والانتباذ الاعتزال والانفراد‏.‏ واختلف الناس لم انتبذت؛ فقال السدي‏:‏ انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس‏.‏ وقال غيره‏:‏ لتعبد الله؛ وهذا حسن‏.‏ وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، من الناس لذلك، ودخلت المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة، فدخل عيها جبريل عليه السلام‏.‏ فقوله‏{‏مكانا شرقيا‏{‏ أي مكانا من جانب الشرق‏.‏ والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس‏.‏ والشرق بفتح الراء الشمس‏.‏ وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها؛ حكاه الطبري‏.‏ وحكى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إني لأعلم الناس لم اتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله عز وجل‏{‏إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا‏{‏ فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة؛ وقالوا‏:‏ لو كان شيء من الأرض خيرا من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه‏.‏ واختلف الناس في نبوة مريم؛ فقيل‏:‏ كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملك‏.‏ وقيل‏:‏ لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر، ورؤيتها للملك كما رئي جبريل في صفة دحية حين سؤاله عن الإيمان والإسلام‏.‏ والأول أظهر‏.‏ وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في ‏{‏آل عمران‏{‏ والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 17 ‏:‏ 21 ‏)‏

‏{‏فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا، قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا، قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا، قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فأرسلنا إليها روحنا‏{‏ قيل‏:‏ هو روح عيسى عليه السلام؛ لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها‏.‏ وقيل‏:‏ هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وكرامة‏.‏ والظاهر أنه جبريل عليه السلام؛ لقوله‏{‏فتمثل لها‏{‏ أي تمثل الملك لها‏.‏ ‏{‏بشرا‏{‏ تفسير أو حال‏.‏ ‏{‏سويا‏{‏ أي مستوي الخلقة؛ لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته‏.‏ ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء‏.‏ فـ ‏{‏قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا‏{‏ أي ممن يتقي الله‏.‏ البكالي‏:‏ فنكص جبريل عليه السلام فزعا من ذكر الرحمن تبارك وتعالى‏.‏ الثعلبي كان رجلا صالحا فتعوذت به تعجبا‏.‏ وقيل‏:‏ تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يتقى منه‏.‏ في البخاري قال أبو وائل‏:‏ علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت‏{‏إن كنت تقيا‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ تقي اسم فاجر معروف في ذلك الوقت قاله وهب بن منبه؛ حكاه مكي وغيره ابن عطية وهو ضعيف ذاهب مع التخرص‏.‏ فقال لها جبريل عليه السلام‏{‏إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا‏{‏ جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله‏.‏ وقرأ ورش عن نافع ‏{‏ليهب لك‏{‏ على معنى أرسلني الله ليهب لك‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏لأهب‏{‏ بالهمز محمول على المعنى؛ أي قال‏:‏ أرسلته لأهب لك‏.‏ ويحتمل ‏{‏ليهب‏{‏ بلا همز أن يكون بمعنى المهموز ثم خففت الهمزة‏.‏ فلما سمعت مريم ذلك من قوله استفهمت عن طريقه فـ ‏{‏قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر‏{‏ أي بنكاح‏.‏ ‏{‏ولم أكن بغيا‏{‏ أي زانية‏.‏ وذكرت هذا تأكيدا؛ لأن قولها لم يمسسني بشر يشمل الحلال والحرام‏.‏ وقيل‏:‏ ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد‏؟‏ من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء‏؟‏ وروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمها؛ قال ابن جريج‏.‏ ابن عباس‏:‏ أخذ جبريل عليه السلام ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى‏.‏ قال الطبري‏:‏ وزعمت النصارى أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، فكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة‏.‏ وقوله‏{‏ولنجعله‏{‏ متعلق بمحذوف؛ أي ونخلقه لنجعله‏{‏آية‏{‏ دلالة على قدرتنا عجيبة ‏{‏ورحمة منا‏{‏ لمن أمن به‏.‏ ‏{‏وكان أمرا مقضيا‏{‏ مقدرا في اللوح مسطورا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 22 ‏:‏ 23 ‏)‏

‏{‏فحملته فانتبذت به مكانا قصيا، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فانتبذت به مكانا قصيا‏{‏ أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد؛ قال ابن عباس‏:‏ إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال؛ وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ الحمل‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك على ما يأتي‏:‏

قوله تعالى‏{‏فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة‏{‏ ‏{‏أجاءها‏{‏ اضطرها؛ وهو تعدية جاء بالهمز‏.‏ يقال‏:‏ جاء به وأجاءه إلى موضع كذا، كما يقال‏:‏ ذهب به وأذهبه‏.‏ وقرأ شبيل ورويت عن عاصم ‏{‏فاجأها‏{‏ من المفاجأة‏.‏ وفي مصحف أبي ‏{‏فلما أجاءها المخاض‏{‏‏.‏ وقال زهير‏:‏

وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء

وقرأ الجمهور ‏{‏المخاض‏{‏ بفتح الميم‏.‏ ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها‏.‏ مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا‏.‏ وناقة ماخض أي دنا ولادها‏.‏ ‏{‏إلى جذع النخلة‏{‏ كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق‏.‏ والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن؛ ولهذا لم يقل إلى النخلة‏.‏ ‏{‏قالت يا ليتني مت قبل هذا‏{‏ تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك‏.‏ الثاني‏:‏ لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك‏.‏ وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة ‏{‏يوسف‏{‏ عليه السلام والحمد لله‏.‏

قلت‏:‏ وقد سمعت أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول‏:‏ اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت لذلك، و‏{‏قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا‏{‏ النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه‏.‏ وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا‏:‏ احفظوا أنساءكم؛ الأنساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى‏.‏ ومنه قول الكميت رضي الله تعالى عنه‏:‏

أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في مَعَد ولا دخل

وقال الفراء‏:‏ النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها؛ فقول مريم‏{‏نسيا منسيا‏{‏ أي حيضة ملقاة‏.‏ وقرئ ‏{‏نسيا‏{‏ بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر‏.‏ وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز ‏{‏نسئا‏{‏ بكسر النون‏.‏ وقرأ نوف البكالي ‏{‏نسئا‏{‏ بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره‏.‏ وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب‏.‏ وقرأ بكر بن حبيب ‏{‏نسا‏{‏ بتشديد السين وفتح النون دون همز‏.‏ وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت‏:‏ يا مريم أشعرت أنت أني حملت‏؟‏ فقالت لها‏:‏ وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك؛ فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يحر برأسه إلى ناحية بطن مريم؛ قال السدي فذلك قوله‏{‏مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين‏}‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏ وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك‏.‏ قال الكلبي‏:‏ قيل ليوسف - وكانت سميت له أنها حملت من الزنى - فالآن يقتلها الملك، فهرب بها، فهم في الطريق بقتلها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له‏:‏ إنه من روح القدس؛ قال ابن عطية‏:‏ وهذا كله ضعيف‏.‏ وهذه القصة تقتضي أنها حملت، واستمرت حاملا على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر قال عكرمة؛ ولذلك قيل‏:‏ لا يعيش ابن ثمانية أشهر لخاصة عيسى‏.‏ وقيل‏:‏ ولدته لتسعة‏.‏ وقيل‏:‏ لستة‏.‏ وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 24 ‏)‏

‏{‏فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فناداها من تحتها‏{‏ قرئ بفتح الميم وكسرها‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ المراد بـ ‏{‏من‏{‏ جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها؛ وقال علقمة والضحاك وقتادة؛ ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله فيها مراد عظيم‏.‏ وقوله‏{‏ألا تحزني‏{‏ تفسير النداء، ‏{‏وأن‏{‏ مفسرة بمعنى أي، المعنى‏:‏ فلا تحزني بولادتك‏.‏ ‏{‏قد جعل ربك تحتك سريا‏{‏ يعني عيسى‏.‏ والسري من الرجال العظيم الخصال السيد‏.‏ قال الحسن‏:‏ كان والله سريا من الرجال‏.‏ ويقال‏:‏ سري فلان على فلان أي تكرم‏.‏ وفلان سري من قوم سراه‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان ذلك نهرا قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم‏.‏ والنهر يسمى سريا لأن الماء يسري فيه؛ قال الشاعر‏:‏

سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا

وقال لبيد‏:‏

فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاورا قلامها

وقيل‏:‏ ناداها عيسى، وكان ذلك معجزة وآية وتسكينا لقلبها؛ والأول أظهر‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏(‏فناداها ملك من تحتها‏)‏ قالوا‏:‏ وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 25 ‏:‏ 26 ‏)‏

‏{‏وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا، فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهزي‏{‏ أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع‏.‏ والباء في قوله‏{‏بجذع‏{‏ زائدة مؤكدة كما يقال‏:‏ خذ بالزمام، وأعط بيدك قال الله تعالى‏{‏فليمدد بسبب إلى السماء‏{‏ أي فليمدد سببا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وهزي إليك رطبا على جذع النخلة‏.‏ ‏{‏وتساقط‏{‏ أي تتساقط فأدغم التاء في السين‏.‏ وقرأ حمزة ‏{‏تساقط‏{‏ مخففا فحذف التي أدغمها غيره‏.‏ وقرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏تساقط‏{‏ بضم التاء مخففا وكسر القاف‏.‏ وقرئ ‏{‏تتساقط‏{‏ بإظهار التاءين و‏{‏يساقط‏{‏ بالياء وإدغام التاء ‏{‏وتسقط‏{‏ و‏{‏يسقط‏{‏ و‏{‏تسقط‏{‏ و‏{‏يسقط‏{‏ بالتاء للنخلة وبالياء للجذع؛ فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري رحمة الله تعالى عليه‏.‏ ‏{‏رطبا‏{‏ نصب بالهز؛ أي إذا هزت الجذع هززت بهزه ‏{‏رطبا جنيا‏{‏ وعلى الجملة فـ ‏{‏رطبا‏{‏ يختلف نصبه بحسب معاني القراءات؛ فمرة يستند الفعل إلى الجذع، ومرة إلى الهز، ومرة إلى النخلة‏.‏ ‏{‏وجنيا‏{‏ معناه قد طابت وصلحت للاجتناء، وهي من جنيت الثمرة‏.‏ ويروى عن ابن مسعود - ولا يصح - أنه قرأ ‏{‏تساقط عليك رطبا جنيا برنيا‏{‏‏.‏ وقال مجاهد‏{‏رطبا جنيا‏{‏ قال‏:‏ كانت عجوة‏.‏ وقال عباس بن الفضل‏:‏ سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله‏{‏رطبا جنيا‏{‏ فقال‏:‏ لم يذو‏.‏ قال وتفسيره‏:‏ لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه؛ وهذا هو الصحيح‏.‏ قال الفراء‏:‏ الجني والمجني واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح‏.‏ وقال غير الفراء‏:‏ الجني المقطوع من نخلة واحدة، والمأخوذ من مكان نشأته؛ وأنشدوا‏:‏

وطيب ثمار في رياض أريضة وأغصان أشجار جناها على قرب

يريد بالجنى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان جذعا نخرا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف، ثم أخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا، ثم رطبا؛ كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء‏.‏

استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما؛ فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، وكانت الآية تكون بألا تهز‏.‏

الأمر بتكليف الكسب الرزق سنة الله تعالى في عباده، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، خلافا لما تقوله جهال المتزهدة؛ وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه‏.‏ وقد كانت قبل ذلك يأيتها، رزقها من غير تكسب كما قال‏{‏كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا‏{‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏‏.‏ فلما ولدت أمرت بهز الجذع‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ لما كان قلبها فارغا فرغ الله جارحتها عن النصب، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه، واشتغل سرها بحديثه وأمره، وكلها إلى كسبها، وردها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده‏.‏ وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى عليه السلام قال لها‏:‏ لا تحزني؛ فقالت له وكيف حزن وأنت معي‏؟‏ ‏!‏ لا ذات زوج ولا مملوكة‏!‏ أي شيء عذري عند الناس‏؟‏ ‏!‏ ‏!‏ ‏{‏يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا‏{‏ فقال لها عيسى‏:‏ أنا أكفيك الكلام‏.‏

قال الربيع بن خيثم‏:‏ ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم ولذلك قالوا‏:‏ التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك‏.‏ وقيل‏:‏ إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل؛ ذكره الزمخشري‏.‏ قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى‏{‏رطبا جنيا‏{‏ الجني من التمر ما طاب من غير نقش ولا إفساد‏.‏ والنقش أن ينقش من أسفل البسرة حتى ترطب؛ فهذا مكروه؛ يعني مالك أن هذا تعجيل للشيء قبل وقته، فلا ينبغي لأحد أن يفعله، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه؛ ولا حكما بطيبه‏.‏ وقد مضى هذا القول في الأنعام‏.‏ والحمد لله‏.‏ عن طلحة بن سليمان ‏{‏جنيا‏{‏ بكسر الجيم للإتباع؛ أي جعلنا لك في السري والرطب فائدتين‏:‏ إحداهما الأكل والشرب، الثانية سلوة الصدر لكونهما معجزتين‏.‏ وهو معنى قوله تعالى‏{‏فكلي واشربي وقري عينا‏{‏ أي فكلي من الجني، وأشربي من السري، وقري عينا برؤية الولد النبي‏.‏ وقرئ بفتح القاف وهي قراءة الجمهور‏.‏ وحكى الطبري قراءة ‏{‏وقري‏{‏ بكسر القاف وهي لغة نجد‏.‏ يقال‏:‏ قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت‏.‏ وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد‏.‏ ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة‏.‏ وضعف فرقة هذا وقالت‏:‏ الدمع كله حار، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن؛ وفلان قرة عيني؛ أي نفسي تسكن بقربه‏.‏ وقال الشيباني‏{‏وقري عينا‏{‏ معناه نامي حضها على الأكل والشرب والنوم‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره‏.‏ و‏{‏عينا‏{‏ نصب على التمييز؛ كقولك‏:‏ طب نفسا‏.‏ والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين؛ وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير‏.‏ ومثله طبت نفسا، وتفقأت شحما، وتصببت عرقا، ومثله كثير‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإما ترين‏{‏ الأصل في ترين ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار ‏{‏تريين‏{‏ ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار ترين، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تري، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين؛ لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد‏:‏

إما تري رأسي حاكى لونه

وقول الأفوه‏:‏

إما تري رأسي أزرى به

وإنما دخلت النون هنا بتوطئة ‏{‏ما‏{‏ كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم‏.‏ وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة ‏{‏ترين‏{‏ بسكون الياء وفتح النون خفيفة؛ قال أبو الفتح‏:‏ وهى شاذة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقولي إني نذرت‏{‏ هذا جواب الشرط وفيه إضمار؛ أي فسألك عن ولدك ‏{‏فقولي إني نذرت للرحمن صوما‏{‏ أي صمتا؛ قاله ابن عباس وأنس بن مالك‏.‏ وفي قراءة أبي بن كعب ‏{‏إني نذرت للرحمن صوما صمتا‏{‏ وروي عن أنس‏.‏ وعنه أيضا ‏{‏وصمتا‏{‏ بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم‏.‏ والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ هو الصوم والمعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة‏.‏ وعلى هذا تخرج قراءة أنس ‏{‏وصمتا‏{‏ بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة‏.‏ ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية فيقوم عذرها‏.‏ وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ معنى ‏{‏قولي‏{‏ بالإشارة لا بالكلام‏.‏ الزمخشري‏:‏ وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها‏.‏

من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر، ويحتمل أن يقال‏:‏ ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس؛ كنذر القيام في الشمس ونحوه‏.‏ وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا؛ وقد تقدم‏.‏ وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام‏.‏ وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل، خرجه البخاري عن ابن عباس‏.‏ وقال ابن زيد والسدي‏:‏ كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام‏.‏

قلت‏:‏ ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح؛ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم‏)‏‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 27 ‏:‏ 28 ‏)‏

‏{‏فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فأتت به قومها تحمله‏{‏ روى أن مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذي كانت انتبذت فيه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما للنفاس، ثم أتت قومها تحمله، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا منكرين‏{‏قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا‏{‏ أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشيء يفتريه‏.‏ قال مجاهد‏{‏فريا‏{‏ عظيما‏.‏ وقال سعيد بن مسعدة‏:‏ أي مختلقا مفتعلا؛ يقال‏:‏ فريت وأفريت بمعنى واحد‏.‏ والولد من الزنى كالشيء المفترى‏.‏ قال الله تعالى‏{‏ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن‏}‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏ أي بولد بقصد إلحاقه بالزوج وليس منه‏.‏ يقال‏:‏ فلان يفري الفري أي يعمل العمل البالغ، وقال أبو عبيدة‏:‏ الفري العجيب النادر، وقاله الأخفش قال‏:‏ فريا عجيبا‏.‏ والفري القطع كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع القول بكونه عجيبا نادرا‏.‏ وقال قطرب‏:‏ الفري الجديد من الأسقية؛ أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏{‏شيئا فريا‏{‏ بسكون الراء‏.‏ وقال السدي ووهب بن منبه‏:‏ لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك بنو إسرائيل، فاجتمع رجالهم ونساؤهم، فمدت امرأة يدها إليها لتضربها فأجف الله شطرها فحملت كذلك‏.‏ وقال آخر‏:‏ ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى؛ فتحامى الناس من أن يضربوها، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون؛ فقالوا‏{‏يا مريم لقد جئت شيئا فريا‏{‏ أي عظيما قال الراجز‏:‏

أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا

قد كنت تفرين به الفريا

أي ‏[‏تعظمينه‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏يا أخت هارون‏{‏ اختلف الناس في معنى هذه الأخوة ومن هارون‏؟‏ فقيل‏:‏ هو هارون أخو موسى؛ والمراد من كنا نظنها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا‏.‏ وقيل‏:‏ على هذا كانت مريم من ولد هارون أخي موسى فنسبت إليه بالأخوة لأنها من ولده؛ كما يقال للتميمي‏:‏ يا أخا تميم وللعربي يا أخا العرب وقيل كان لها أخ من أبيها اسمه هارون؛ لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل تبركا باسم هارون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل؛ قاله الكلبي‏.‏ وقيل‏:‏ هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه هارون‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل؛ إذ كانت موقوفة على خدمة البيع؛ أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لذلك‏.‏ وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها‏:‏ إن مريم ليست بأخت هارون أخي موسى؛ فقالت له عائشة‏:‏ كذبت‏.‏ فقال لها‏:‏ يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهو أصدق وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة‏.‏ قال‏:‏ فسكتت‏.‏ وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ لما قدمت نجران سألوني فقال إنكم تقرؤون ‏{‏يا أخت هارون‏{‏ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال‏:‏ ‏(‏إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم‏)‏‏.‏ وقد جاء في بعض طرقه في غير الصحيح أن النصارى قالوا له‏:‏ إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون وبينهما في المدة ستمائة سنة‏؟‏ ‏!‏ قال المغيرة‏:‏ فلم أدر ما أقول؛ وذكر الحديث‏.‏ والمعنى أنه اسم وافق اسما‏.‏ ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء؛ والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ فقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين موسى وعيسى وهارون زمان مديد‏.‏ الزمخشري‏:‏ كان بينهما وبينه ألف سنة أو أكثر فلا يتخيل أن مريم كانت أخت موسى وهارون؛ وإن صح فكما قال السدي لأنها كانت من نسله؛ وهذا كما تقول للرجل من قبيلة‏:‏ يا أخا فلان‏.‏ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن أخا صداء قد أذن فمن أذن فهو يقيم‏)‏ وهذا هو القول الأول‏.‏ ابن عطية‏:‏ وقالت فرقة بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ؛ ذكره الطبري ولم يسم قائله‏.‏

قلت‏:‏ ذكره الغزنوي عن سعيد بن جبير أنه كان فاسقا مثلا في الفجور فنسبت إليه‏.‏ والمعنى‏:‏ ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها‏؟‏ ‏!‏ وهذا من التعريض الذي يقوم مقام التصريح‏.‏ وذلك يوجب عندنا الحد وسيأتي في سورة ‏{‏النور‏{‏ القول فيه إن شاء الله تعالى‏.‏ وهذا القول الأخير يرده الحديث الصحيح، وهو نص صريح فلا كلام لأحد معه، ولا غبار عليه‏.‏ والحمد لله‏.‏ وقرأ عمر بن لجأ التيمي ‏(‏ما كان أباك امرؤ سوء‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 29 ‏:‏ 33 ‏)‏

‏{‏فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا‏{‏ التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت بـ ‏{‏إني نذرت للرحمن صوما‏{‏ وإنما ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال‏:‏ إن أمرها بـ ‏{‏قولي‏{‏ إنما أريد به الإشارة‏.‏ ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا‏:‏ استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير ‏{‏كيف نكلم من كان في المهد صبيا‏{‏ و‏{‏كان‏{‏ هنا ليس يراد بها الماضي؛ لأن كل واحد قد كان في المهد صبيا، وإنما هي في معنى هو ‏(‏الآن‏)‏‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏(‏كان‏)‏ هنا لغو؛ كما قال‏:‏

وجيران لنا كانوا كرام

وقيل‏:‏ هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله‏{‏وإن كان ذو عسرة‏{‏ وقد تقدم‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت ‏{‏صبيا‏{‏ ولا أن يقال ‏{‏كان‏{‏ بمعنى حدث، لأنه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر، تقول‏:‏ كان الحر وتكتفي به‏.‏ والصحيح أن ‏{‏من‏{‏ في معنى الجزاء و‏{‏كان‏{‏ بمعنى يكن؛ التقدير‏:‏ من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه‏؟‏ ‏!‏ كما تقول‏:‏ كيف أعطي من كان لا يقبل عطية؛ أي من يكن لا يقبل‏.‏ والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء؛ كقوله تعالى ‏{‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار‏{‏ أي إن يشأ يجعل‏.‏ وتقول‏:‏ من كان إلي منه إحسان كان إليه مني مثله، أي من يكن منه إلي إحسان يكن إليه مني مثله‏.‏ ‏{‏والمهد‏{‏ قيل‏:‏ كان سريرا كالمهد وقيل ‏{‏المهد‏{‏ ههنا حجر الأم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوم في المهد لصغره، فلما سمع عيسى عليه السلام كلامهم قال لهم من مرقده ‏{‏إني عبد الله‏{‏ فقيل‏:‏ كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و‏{‏قال إني عبدالله‏{‏ فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته، ردا على من غلا من بعده في شأنه‏.‏ والكتاب الإنجيل؛ قيل‏:‏ آتاه في تلك الحالة الكتاب، وفهمه وعلمه، وآتاه النبوة كما علم آدم الأسماء كلها، وكان يصوم ويصلي‏.‏ وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا‏.‏ وقيل‏:‏ أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن الكتاب منزلا في الحال؛ وهذا أصح‏.‏ ‏{‏وجعلني مباركا أين ما كنت‏{‏ أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلما له‏.‏ التستري‏:‏ وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف‏.‏ ‏{‏وأوصاني بالصلاة والزكاة‏{‏ أي لأؤديهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداؤهما، على القول الأخير الصحيح‏.‏ ‏{‏ما دمت حيا‏{‏ في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي‏.‏ ‏{‏وبرا بوالدتي‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ لما قال ‏{‏وبرا بوالدتي‏{‏ ولم يقل بوالدي علم أنه شيء من جهة الله تعالى‏.‏ ‏{‏ولم يجعلني جبارا‏{‏ أي متعظما متكبرا يقتل ويضرب على الغضب‏.‏ وقيل‏:‏ الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقا قط ‏{‏شقيا‏{‏ أي خائبا من الخير‏.‏ ابن عباس‏:‏ عاقا‏.‏ وقيل‏:‏ عاصيا لربه‏.‏ وقيل‏:‏ لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره‏.‏

قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية‏:‏ ما أشدها على أهل القدر‏!‏ أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت‏.‏ وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا‏:‏ إن هذا لأمر عظيم‏.‏ وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الأطفال، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة‏.‏ ولم ينقل أنه دام نطقه، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره بن وقت الولادة لكان مثله مما لا ينكتم، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول، ويصرح بجهالة قائله‏.‏ ويدل أيضا على أنه تكلم في المهد خلافا لليهود والنصارى‏.‏ والدليل على ذلك إجماع الفرق على أنها لم تحد‏.‏ وإنما صح براءتها من الزنى بكلامه في المهد‏.‏ ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبا على الأمم السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه ولم ينسخ في شريعة أمره‏.‏ وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع؛ يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جنه الليل، لا مسكن له، صلى الله عليه وسلم‏.‏

الإشارة بمنزلة الكلام، وتفهم ما يفهم القول‏.‏ كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال‏{‏فأشارت إليه‏{‏ وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا‏:‏ ‏(‏كيف نكلم‏)‏ وقد مضى هذا في ‏{‏آل عمران‏{‏ مستوفى‏.‏

قال الكوفيون‏:‏ لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه‏.‏ وروي مثله عن الشعبي، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة، فلم يكن قاذفا؛ بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة‏.‏ قالوا‏:‏ واللعان عندنا شهادات، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع‏.‏ قال ابن القصار‏:‏ قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية، فكذلك إشارة الأخرس‏.‏ وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط‏.‏ وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك‏.‏ قال المهلب‏:‏ وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏بعثت أنا والساعة كهاتين‏)‏ نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة‏.‏ وفي إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام‏.‏ ‏{‏والسلام علي‏{‏ أي السلامة علي من الله تعالى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام‏.‏ وقوله‏{‏يوم ولدت‏{‏ يعني في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ من همز الشيطان كما تقدم في ‏{‏آل عمران‏{‏‏.‏ ‏{‏ويوم أموت‏{‏ يعني في القبر ‏{‏ويوم أبعث حيا‏{‏ يعني في الآخرة‏.‏ لأن له أحواله ثلاثة في الدنيا حيا، وفي القبر ميتا، وفي الآخرة مبعوثا؛ فسلم في أحواله كلها وهو قول الكلبي‏.‏ ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص في سائر آياته فقالت‏:‏ طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعك؛ فقال لها عيسى عليه السلام‏:‏ طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 34 ‏:‏ 40 ‏)‏

‏{‏ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم، فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم، أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين، وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون، إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك عيسى ابن مريم‏{‏ أي ذلك الذي ذكرناه عيسى بن مريم فكذلك اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة وأنه ابن يوسف النجار، ولا كما قالت النصارى‏:‏ إنه الإله أو ابن الإله‏.‏ ‏{‏قول الحق‏{‏ قال الكسائي‏{‏قول الحق‏{‏ نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم ‏{‏قول الحق‏{‏ وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله؛ والحق هو الله عز وجل‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ المعنى هو قول الحق‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير هذا الكلام قول الحق‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏يريد هذا كلام عيسى صلى الله عليه وسلم قول الحق ليس بباطل؛ وأضيف القول إلى الحق كما قال‏:‏ ‏(‏وعد الصدق الذي كانوا يوعدون‏)‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 16‏]‏ أي الوعد والصدق‏.‏ وقال‏{‏وللدار الآخرة خير‏}‏الأنعام‏:‏32‏]‏ أي ولا الدار الآخرة‏.‏ وقرأ عاصم وعبدالله بن عامر ‏{‏قول الحق‏{‏ بالنصب على الحال؛ أي أقول قولا حقا‏.‏ والعامل معنى الإشارة في ‏(‏ذلك‏)‏‏.‏ الزجاج‏:‏ هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدل عليه‏.‏ وقيل‏:‏ مدح‏.‏ وقيل‏:‏ إغراء‏.‏ وقرأ عبدالله ‏{‏قال الحق‏{‏ وقرأ الحسن ‏{‏قول الحق‏{‏ بضم القاف، وكذلك في ‏{‏الأنعام‏{‏ ‏{‏قول الحق‏{‏ والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب‏.‏ ‏{‏الذي‏{‏ من نعت عيسى‏.‏ ‏{‏فيه يمترون‏{‏ أي يشكون؛ أي ذلك عيسى بن مريم الذي فيه يمترون القول الحق‏.‏ وقيل‏{‏يمترون‏{‏ يختلفون‏.‏ ذكر عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى ‏(‏ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون‏)‏ قال‏:‏ اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع؛ فقال أحدهم‏:‏ هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية‏.‏ فقالت الثلاثة‏:‏ كذبت‏.‏ ثم قال اثنان منهم للثالث‏:‏ قل فيه، قال‏:‏ هو ابن الله وهم النسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال‏:‏ هو ثالث ثلاثة، الله إله وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى‏.‏ قال الرابع‏:‏ كذبت بل هو عبدالله ورسول وروحه وكلمته وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع - على ما قال - فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس‏)‏ ‏[‏آل عمران‏:‏21‏]‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ وهم الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏(‏فاختلف الأحزاب من بينهم‏)‏ اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قول ‏(‏الذي فيه تمترون‏)‏ بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبدالرحمن السلمي وغيره قال ابن عباس فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه؛ ذكره الماوردي‏.‏

قلت ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الإنجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا وأن الله تعالى أوعى إلى يوسف النجار في الحلم وقال له قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه وامتثل أمر ربه وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التي بظاهر القاهرة وغسلت ثيابه على ذلك البئر فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين وقسقام المعروفة الآن بالمحرقة فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن، ويحضروا إليها في عيد الفصح من كل مكان؛ لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر، ومنها عاد إلى الشام‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما كان لله‏{‏ أي ما ينبغي له ولا يجوز ‏{‏أن يتخذ من ولد‏{‏ ‏{‏من‏{‏ صلة للكلام؛ أي أن يتخذ ولدا‏.‏ و‏{‏أن‏{‏ في موضع رفع اسم ‏{‏كان‏{‏ أي ما كان لله أن يتخذ ولدا؛ أي ما كان من صفته اتخاذ الولد، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال‏{‏سبحانه‏{‏ أن يكون له ‏{‏إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون‏{‏ تقدم‏.‏ ‏{‏وإن الله ربي وربكم‏{‏ قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح ‏{‏أن‏{‏ وأهل الكوفة ‏{‏وإن‏{‏ بكسر الهمزة على أنه مستأنف‏.‏ تدل عليه قراءة أبي ‏{‏كن فيكون‏.‏ إن الله‏{‏ بغير واو على العطف على ‏{‏قال إني عبدالله‏{‏ وفي الفتح أقوال‏:‏ فمذهب الخليل وسيبويه أن المعنى؛ ولأن الله ربي وربكم، وكذا ‏{‏وأن المساجد لله‏{‏ فـ ‏{‏أن‏{‏ في موضع نصب عندهما‏.‏ وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أن يكون أيضا في موضع خفض بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبأن الله ربي وربكم؛ وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى؛ والأمر أن الله ربي وربكم‏.‏ وفيها قول خامس حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى‏:‏ وقضى أن الله ربي وربكم؛ فهي معطوفة على قوله‏{‏أمرا‏{‏ من قوله‏{‏إذا قضى أمرا‏{‏ والمعنى إذا قضى أمرا وقضى أن الله‏.‏ ولا يبتدأ بـ ‏{‏أن‏{‏ على هذا التقدير، ولا على التقدير الثالث‏.‏ ويجوز الابتداء بها على الأوجه الباقية‏.‏ ‏{‏هذا صراط مستقيم‏{‏ أي دين قويم لا اعوجاج فيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاختلف الأحزاب من بينهم‏{‏ ‏{‏من‏{‏ زائدة أي اختلف الأحزاب بينهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أي ما بينهم فاختلفت الفرق أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام فاليهود بالقدح والسحر‏.‏ والنصارى قالت النسطورية منهم‏:‏ هو ابن الله‏.‏ والملكانية ثالث ثلاثة‏.‏ وقالت اليعقوبية‏:‏ هو الله؛ فأفرطت النصار وغلت، وفرطت اليهود وقصرت‏.‏ وقد تقدم هذا في ‏{‏النساء‏{‏ وقال ابن عباس‏:‏ المراد من الأحزاب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين‏.‏ ‏{‏فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم‏{‏ أي من شهود يوم القيامة، والمشهد بمعنى المصدر، والشهود الحضور ويجوز أن يكون الحضور لهم، ويضاف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما يقال‏:‏ ويل لفلان من قتال يوم كذا؛ أي من حضوره ذلك اليوم‏.‏ وقيل‏:‏ المشهد بمعنى الموضع الذي يشهده الخلائق، كالمحشر للموضع الذي يحشر إليه الخلق‏.‏ وقيل‏:‏ فويل للذين كفروا من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور، فأجمعوا على الكفر بالله، وقولهم‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة‏.‏

قوله تعالى‏{‏أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا‏{‏ قال أبو العباس‏:‏ العرب تقول هذا في موضع التعجب؛ فتقول أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره‏.‏ قال‏:‏ فمعناه أنه عجب نبيه منهم‏.‏ قال الكلبي‏:‏ لا أحد أسمع يوم القيامة ولا أبصر، حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى‏:‏ ‏(‏أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏)‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏ وقيل‏{‏أسمع‏{‏ بمعنى الطاعة؛ أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم ‏{‏لكن الظالمون اليوم‏{‏ يعني في الدنيا ‏{‏في ضلال مبين‏{‏ وأي ضلال أبين من أن يعتقد المرء في شخص مثله حملته الأرحام، وأكل وشرب، وأحدث واحتاج أنه إله‏؟‏ ‏!‏ ومن هذا وصفه أصم أعمى ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذب، ولكنه لا ينفعه ذلك؛ قال معناه قتادة وغيره‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر‏{‏ روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال‏:‏ ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه‏.‏ وقيل‏:‏ تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله‏.‏ ‏{‏إذ قضي الأمر‏{‏ أي فرغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يأهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - ثم يقال يأهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح ثم يقال يأهل الجنة خلود فلا موت ويأهل النار خلود فلا موت - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - ‏{‏وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون‏{‏ خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر، وابن ماجة من حديث أبي هريرة والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح‏.‏ وقد ذكرنا ذلك في كتاب ‏{‏التذكرة‏{‏ وبينا هناك أن الكفار مخلدون بهذه الأحاديث والآي ردا على من قال‏:‏ إن صفة الغضب تنقطع، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنا نحن نرث الأرض ومن عليها‏{‏ أي نميت سكانها فنرثها‏.‏ ‏{‏وإلينا يرجعون

يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدم هذا في ‏{‏الحجر‏{‏ وغيرها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 41 ‏:‏ 46 ‏)‏

‏{‏واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا‏}‏

قوله تعالى‏{‏واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا‏{‏ المعنى‏:‏ واذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قصة إبراهيم وخبره‏.‏ وقد تقدم معنى الصديق في ‏{‏النساء‏{‏ واشتقاق الصدق في ‏{‏البقرة‏{‏ فلا معنى للإعادة ومعنى الآية‏:‏ اقرأ عليهم يا محمد في القرآن أمر إبراهيم فقد عرفوا أنهم من ولده، فإنه كان حنيفا مسلما وما كان يتخذ الأنداد، فهؤلاء لم يتخذون الأنداد‏؟‏ ‏!‏ وهو كما قال ‏{‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه‏}‏البقرة‏:‏ 130‏]‏

قوله تعالى‏{‏إذ قال لأبيه‏{‏ وهو آزر‏.‏ ‏{‏يا أبت‏{‏ تقدم في ‏(‏يوسف‏)‏‏.‏ ‏{‏لم تعبد‏{‏ أي لأي شي تعبد‏{‏ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا‏.‏ يريد الأصنام‏{‏يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك‏{‏ أي من اليقين والمعرفة بالله وما يكون بعد الموت، وأن من عبد غير الله عذب ‏{‏فاتبعني‏{‏ إلى ما أدعوك إليه‏.‏ ‏{‏أهدك صراطا سويا‏{‏ أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة‏.‏ ‏{‏يا أبت لا تعبد الشيطان‏{‏ أي لا تطعه فيما يأمرك به من الكفر، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده‏.‏ ‏{‏إن الشيطان كان للرحمن عصيا ‏{‏كان‏{‏ صلة زائدة وقيل بمعنى صار‏.‏ وقيل بمعنى الحال أي هو للرحمن‏.‏ وعصيا وعاص بمعنى واحد قال الكسائي‏{‏يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن‏{‏ أي إن مت على ما أنت عليه‏.‏ ويكون ‏{‏أخاف‏{‏ بمعنى أعلم‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏أخاف‏{‏ على بابها فيكون المعنى‏:‏ إني أخاف أن تموت على كفرك فيمسك العذاب‏.‏ ‏{‏فتكون للشيطان وليا‏{‏ أي قرينا في النار‏.‏ ‏{‏قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم‏{‏ أي أترغب عنها إلى غيرها‏.‏ ‏{‏لئن لم تنته لأرجمنك‏{‏ قال الحسن‏:‏ يعني بالحجارة‏.‏ الضحاك‏:‏ بالقول؛ أي لأشتمنك‏.‏ ابن عباس‏:‏ لأضربنك‏.‏ وقيل‏:‏ لأظهرن أمرك‏.‏ ‏{‏واهجرني مليا‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ أي اعتزلني سالم العرض لا يصيبك منى معرة؛ واختاره الطبري، فقوله‏{‏مليا‏{‏ على هذا حال من إبراهيم‏.‏ وقال الحسن ومجاهد‏{‏مليا‏{‏ دهرا طويلا؛ ومنه قول المهلهل‏:‏

فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا

قال الكسائي‏:‏ يقال هجرته مليا وملوة وملوة وملاوة وملاوة، فهو على هذا القول ظرف، وهو بمعنى الملاوة من الزمان، وهو الطويل منه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 47 ‏:‏ 50 ‏)‏

‏{‏قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا، فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا، ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال سلام عليك‏{‏ لم يعارضه إبراهيم عليه السلام بسوء الرد؛ لأنه لم يؤمر بقتاله على كفره‏.‏ والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية؛ قال الطبري‏:‏ معناه أمنة مني لك‏.‏ وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام‏.‏ وقال النقاش‏:‏ حليم خاطب سفيها؛ كما قال‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما‏}‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏‏.‏ وقال بعضهم في معنى تسليمه‏:‏ هو تحية مفارق؛ وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها‏.‏ قيل لابن عيينة‏:‏ هل يجوز السلام على الكافر‏؟‏ قال‏:‏ نعم؛ قال الله تعالى‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين‏}‏الممتحنة‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقال ‏{‏قد كانت‏{‏ لكم أسوة حسنة في إبراهيم‏}‏الممتحنة‏:‏4‏]‏ الآية؛ وقال إبراهيم لأبيه ‏{‏سلام عليك‏{‏‏.‏

قلت‏:‏ الأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة؛ وفي الباب حديثنا صحيحان‏:‏ روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه‏)‏ خرجه البخار ومسلم‏.‏ وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكيه، وأردف وراءه أسامة بن زيد؛ وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبدالله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبدالله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبدالله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال‏:‏ لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ الحديث‏.‏ فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء لأن ذلك إكرام، والكافر ليس أهله‏.‏ والحديث الثاني يجوز ذلك‏.‏ قال الطبري‏:‏ ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة فإنه ليس في أحدهما خلاف للأخر وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص‏.‏ وقال النخعي‏:‏ إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأه بالسلام فبان بهذا أن حديث أبى هريرة ‏(‏لا تبدؤوهم بالسلام‏)‏ إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤوهم بالسلام، من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة أو جوار أو سفر‏.‏ قال الطبري‏:‏ وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب‏.‏ وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه؛ قال علقمة‏:‏ فقلت له يا أبا عبدالرحمن أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام‏؟‏ ‏!‏ قال نعم، ولكن حق الصحبة‏.‏ وكان أبو أسامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه؛ قيل له في ذلك فقال‏:‏ أمرنا أن نفشي السلام‏.‏ وسئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال‏:‏ إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك‏.‏ وروي عن الحسن البصري أنه قال‏:‏ إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم‏.‏

قلت‏:‏ وقد احتج أهل المقالة الأولى بأن السلام الذي معناه التحية إنما خص به هذه الأمة؛ لحديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة‏)‏ الحديث؛ ذكره الترمذي الحكيم؛ وقد مضى في الفاتحة بسنده‏.‏ وقد مضى الكلام في معنى قوله‏{‏سأستغفر لك ربي‏{‏ وارتفع السلام بالابتداء؛ وجاز ذلك مع نكرته لأنه نكرة مخصصة فقرنت المعرفة‏.‏ ‏{‏إنه كان بي حفيا‏{‏ الحفي المبالغ في البر والإلطاف؛ يقال‏:‏ حفي به وتحفى إذا بره‏.‏ وقال الكسائي يقال‏:‏ حفي بي حفاوة وحفوة‏.‏ وقال الفراء‏{‏إنه كان بي حفيا‏{‏ أي عالما لطيفا يجيبني إذا دعوته‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأعتزلكم‏{‏ العزلة المفارقة وقد تقدم في ‏{‏الكهف‏{‏ بيانها‏.‏ وقوله‏{‏عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا‏{‏ قيل‏:‏ أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه‏.‏ ولهذا قال‏{‏فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب‏{‏ أي آنسنا وحشته بولد؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ وقيل‏{‏عيسى‏{‏ يدل على أن العبد لا يقطع بأنه يبقى على المعرفة أم لا في المستقبل وقيل دعا لأبيه بالهداية‏.‏ فـ ‏{‏عسى‏{‏ شك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا‏؟‏ والأول أظهر‏.‏ وقوله‏{‏وجعلنا لهم لسان صدق عليا‏{‏ أي أثنينا عليهم ثناء حسنا؛ لأن جميع الملل تحسن الثناء عليهم‏.‏ واللسان يذكر ويؤنث؛ وقد تقدم‏.‏